قصة عن حب الوطن الغالي .. الوطن، تلك الكلمةُ الضئيلة من إذ عدد الحروف، العميقة من إذ المعنى، الضاربة في وجدان كلّ من يسمع بها، حروفٌ ثلاثة قد تجعل المرء يذرف الدمع إذا سمع بها، أو يستبدّ به الحنين، كلّ هذا كفيلة به هذه الحروف، وإذا أراد أحد أن يكتب حكاية عن حب الوطن فحسْبُه أن يتذكّر رواياتَ الشرفاء الذين عشقوا أوطانهم، ويستلهم من بينهم حكاياتًا تصلحُ لِأنْ يقرأها أيّ فرد، ضخمًا كان أم ضئيلًا، ويأخذ منها درسًا مهمًّا جدًّا، عنوانه: الوطن فوق الجميع.

قصة عن حب الوطن الغالي

في المأثور العربيّ أنّ رجلًا كان يشتغل في تهريب السِّلَع الغذائيّة إلى بلده من بلد متاخم، لم يكن هدفه أنْ يحصد مالًا، ولكنّه كان يشفق على أهله الذين لا يجدون تلك المنتجات في بلدهم، وإن وجدوها فهي باهظة الثّمن، فكان يأتي بها لهم بتكاليف زهيدة، ولأنّه يشتغل في التّهريب ولقد نشرت حكومة بلاده مرسومًا يحكم بملاحقته والقبض عليه وسجنه عقوبة له لخرقه القوانين السائدة في بلده، غير أنّه ظلّ متخفّيًا عن عيون الجنود والحكومة، ولم يمسكوا به.

ويوما ما كان هذا الرّجل مختبئًا في كهف في مناطق جبلية قريته الحدوديّة، وحيث برجل جريح يتكلّم بلهجة قريبة للهجة قريته، فحسِبَه من القرى المجاورة، فنهض إليه وساعده، وعالج جرحه، وتركه في الكهف، وذهب ليحضرَ له أكلًا وشرابًا.

ولكنّه حين رجع إلى المنزل وجد زوجته تستمع إلى المذياع، وعلِمَ منها أنّ العساكر يبحثون عن طيّار قد أسقطوا له طائرته فوق بلادهم، وهذا الطيّار يوضح أنّه من الصّهاينة المذنبين، فطلب من زوجته أن تصفه له مثلما وصفوه في المذياع، فإذا هو يشبه ذاك الرجل الذي آواه في الكهف وعالجه، وأيضًا هو جريح، ولا بدّ أنّ هذا كان جراء إسقاط طائرته، فعاد إلى الكهف، فوجد الرّجل مستيقظًا متيقّظًا عالضّبع الذي يريد الغدر بفرسته، فقال له: هل أنت الطيّار الصهيونيّ الذي أُسقطت طائرته؟

فقال: نعم، فماذا تود منّي؟ أفاد: سآخذك إلى الحكومة لتقبض عليك، وآمل أن يقتلوك لأنّ أمثالك لا يليق بهم سوى القتل! قال الطيّار: وتسلّم نفسك؟ يظهر أنّك ملاحق منهم أيضًا، وإذا ذهبت إليهم سيمسكون بك، وسيسجنونك برفقتي في زنزانة واحدة! صرح الرجل: اخسَأ، ليس مثلي من يشاطرك مكانًا فردًا ولو كان ذلك في الجنّة، سآخذك، سيقبض عليك عساكر بلادي، وستكون قدوة لكل الجناة من أمثالك.

وفيما هم كذلك استغلّ الطيّار لحظة شرود من هذا الرّجل، وأراد أن يغدر به، غير أنّ اللّٰه-سبحانه-شاء أن يرتدّ كيده أعلاه، فنبّه ذاك الرّجل إلى غدر الطيّار، فضربه على قمته وأفقده وعيه، ثمّ حمله على ظهره وذهب به إلى مخفر الشّرطة ليسلّمه، وتقدّم إلى رئيس المخفر وقال له: يا حضرة الجنديّ، ذاك عدوّي وعدوّكم أراد أن يهرب فأمسكت به، وجئتكم به لا أبالي ما ستفعلون بي، وإن شئت فهات الأصفاد وضعها في معصمي، فلا أبالي حتى الآن اليوم أسجنتموني أم لا، الجوهريّ عندي أن أكون وفيًّا لوطني ولا أغدر به.

تقدّم إليه رئيس المخفر، وقبّل جبينه، وأطلَقَ سراحه، وتحدث له: ليس من شيمنا أن نكافئ أولاد الوطن الأوفياء بالسّجن، ومثلُكَ يستحقّ أكاليل الغار على وفائه، فاذهب واعمل ما شئت، فوطنك لا يغدر بك، ويعزّ فوقه أن يراك خلف القضبان وأنت الذي جئته بعدوّه مكبّلًا مشدود الوثاق، ورجع الرّجل إلى عمله، واستمرّ بتأمين المنتجات الرّخيصة لأبناء قريته، إلا أن هذه المرّة أسفل أنظار حكومة بلاده، وبرضاها؛ فهو اليوم بطل قد أسدى لوطنه منفعة لا تقدّر بسعر، وأمسك بعدوّ غادِرٍ حاقدٍ لا يؤمَنُ ناحيةُه.

والقدوة من تلك القصّة أنّ الذي يرى وطنه فوق كلّ شيء، ويدافع عنه بشرف ونزاهة فإنّ اللّٰه -هلم- سوف يكون برفقته، وينجّيه من المخاطر، ويتولّاه برحمته، وهذه رواية عن حب الوطن قد جادَ بها هذا النص.