تعبير عن الامل والتفاؤل .. إنّ العلاقة بين الأمل والتفاؤل رابطة أزليّة تبدأ منذ زمن بعيد يتطاول، فالتفاؤل شرطٌ للأمل، والأمل مربوط بالتفاؤل، فنحن عندما نتفاءل فلأنّ الأمل متواجد
فإذا لم يحضر الأملُ بات التفاؤل لا نفع منه، فإنّ الفرق بين الأمل والتفاؤل هو خيطٌ دقيق؛ إذ كثيرًا ما يُخلَط بين المفهومين، فالأمل هو الظنّ الحسَنُ بأنّ ما سيأتي هو خيرٌ بإذن الله، ومن هنا يجيء التفاؤل بأنّ الأملَ لا يزال موجودًا، فلو كان أملنا ضعيفًا كان التفاؤل أضعف، وإذا كان الأمل عارمًا كان التفاؤل جسيمًا جدًّا.
تعبير عن الامل والتفاؤل
لهذا خسر كان التفاؤل في الإسلام سُنّة عن النبي المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم-، بينما كان التشاؤم منبوذًا، وقد نعت وتصوير النبي -صلّى الله فوقه وسلّم- التطيّر بأنّه شركٌ بالله تعالى، فالتطيّر هو أن يتخيل الإنسان أنّ شيئًا ما قد يتسبّب بحلول الكوارث، فهو بذلك قد أشرَكَ ذلك الشيء بالتحكّم بالقضاء والقدر، وتلك الأشياء لا يقدر على التحكّم فيها إلّا الله -سبحانه- وحده.
إلا أن كان ديدنه -عليه الصلاة والسلام- التفاؤل والأمل الكبير باللّه عز وجل، وهذا الأمل الضخم لا يكون إلّا بالإيمان العميق بقدرة الله سبحانه على التصرّف في جميعّ قضى
وبأنّه تعالى لا يجيء إلّا بالخير وإن رآه بعض الناس شرًّا، فقد كان يقول -صلّى الله فوقه وسلّم-: “لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ، ويُعْجِبُنِي الفَأْلُ الصَّالِحُ: الكَلِمَةُ الحَسَنَةُ” فهو إذًا ينهى عن التطيّر والتشاؤم، ويحثّ على التفاؤل والظن الحسن بالله إيتي، فالكلمة الحسنة التي يقولها الإنسان تكون سببًا في الروح الإيجابيّة التي ستسيطر فوق منه وقتها.
ممّا يحثّ على وجوب التفاؤل والظن الحسن بالمستقبل هو الحوار القدسيّ الذي يقول فيه الله تعالى: “أنا لدىَ ظنِّ عبدي بي إنْ ظنَّ خيرًا فله وإنْ ظنَّ شرًّا فله”
فالله تعالى قد صالح الإنسان بين هذين الأمرين، وله الخِيار في هذا، فالعاقل حين يعلم بذاك الحوار سيختار أن يتصورّ الخير بالله تعالى، ويتفاءل ويظن بالله خيرًا في جميعّ شؤون عمره، فمهما يكن من كلفٍ فهو لن يكون أعرفَ بمصلحته من الذي قد خلَقَه ونفخ فيه الروح.
عديدًا ما اعتقدنا في عدد محدود من الأشياء من حياتنا أنّ هذا القدر الذي أصابنا هو شر، ولكنّنا حتى الآن مدّة نشاهد أنّ ما أصابنا إلّا الخير، فنحمد الله الذي اختار لنا ولم يخيّرنا
وقد كان واحد من الصالحين يُكثر من تضرع: “اللهم اختر لي ولا تخيّرني”، ولذا لب الدّعاء وهو معنى التسليم لقضاء الله تعالى، ومعنى أن يتصور الإنسان أنّ الخيرة فيما اختاره الله تعالى له، فهذا ممّا يزيد المؤمن إيمانًا بقدرة الله تعالى على تصريف الموضوعات على النحو الذي يلزم لذا الكون، فلو سار الكون مثلما نريد نحن البشر لساده الإتلاف والدمار ولعلا عدد محدود من الناس على بعض.
كيف نحيي الأمل والتفاؤل في قلوبنا؟
إنّ التفاؤل في الحياة -مثلما سلف- هو كلفٌ ضروريٌّ لاستمرارها على النحو الذي يقتضي، وإن قلنا لاستمرارها لم نجانب الحقيقة، فالأملُ أوّلًا لا يقتضي أن ينحصر في الكوكب فحسب
فلو انحصر في العالم لشدّ ذاك على الإنسان الويلات مثلما ينشأ في عديد من المجتمعات الماديّة التي ينحصر تفكير الناس فيها في الكوكب لاغير، فإذا وصلَ الإنسان إلى ما يود لم يعتبر له طلب في الحياة، فينهي حياته بيديه توهمًّا منه أنّ الحياة تنتهي بانتهاء الدنيا، إلا أن ليس الشأن بتلك البساطة ولا بتلك السطحيّة؛ فالدّنيا هي ممرّ للحياة الأبديّة التي يقتضي للمرء التفاؤل فيها.
حكى لي أبي أنّ أكثر المجتمعات الصناعيّة تكثر فيها كوراث الانتحار، والعلة يكون ضغط العمل أو ضياع الأمل من كلّ شيء، أو الإتيان إلى موضع يتخيل الإنسان أنّه لن يبلغ أعلى منه، أو أن يعتقد أنّه قد حقّق حلمه ووقف في هذا الموضع الذي تمنّى أن يقف فيه، فالأمل لا يكون أيضاً ولا التفاؤل أيضًا، بل التفاؤل والأمل يكونان إذا وعى الإنسان أنّ الحياة لن تنتهي بإخفاق في ميدان ما، وبأنّ الخطأ سيُصحّح، وبأنّه ما زال ثمة متّسع من الأمل ليحيا به الإنسان.
أوّل خطوة حتى يحيا الأمل والتفاؤل فينا هو أن نتخيل بأنّ الله تعالى معنا في جميعّ شؤون حياتنا، وبأنّه هو ما سيدبّر لنا الأمر، وبأنّنا إن تخلّينا عن أملنا بأنّه سيكون لنا سندًا وعونًا فإنّنا سنقع ولن نجد من ينتشلنا، فنقرأ آيات الله تعالى التي تخبرنا بأنّ الله معنا، وبأنّ الأوان لم يفُت، وبأنّ الأمل موجود ما دام كان إيماننا بالله هائلًا.
الذي يقرأ في روايات الأوّيسير يكبر الأملُ في داخله ويحيا إلى أن تكاد شجرته تُلامس الغيوم، كان أبي عديدًا ما يقول لي إنّ ثمة آية قرآنية عن الأمل كلّما سمعها ترتاح نفسه وتسكن وتسعَد بنموّ الأمل فيها، وهي قوله إيتي: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا كان عندما يتلوها يلتفت إليّ وهو يقول: إذا كان الله معنا فمن علينا؟ سألته مرّة: غير أن يا والدي، هذه آية في كتاب الله الخاتم، فهل نحن المقصودون بها؟
قال لي: تلك الآية على لسان رسول الله -صلّى الله فوقه وسلّم- حين كان هو والصدّيق أبو بكر -رضي الله سبحانه وتعالى عنه- في غار ثور خلال طريقهما إلى البلدة في الهجرة المباركة، فكان المشركون يُطاردونهم ووصلوا إلى الغار الذي يجلس فيه النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وصاحبه
فخاف أبو بكر من أن يُمسك بهم الكفّار، فقال له النبي -صلّى الله فوقه وسلّم- مُطَمئِنًا: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا، فبهذه المفردات إعلاء النبي -عليه الصلاة والسلام- من منسوب الأمل عن أبي بكر، وجعله متفائلًا بأنّهم سيصلون إلى المدينة وستقوى شوكة الإسلام وسينتصر الحق.
العاصي مثلًا يعتقد أنّ القطار قد فاته نتيجة لـ كثرة ما اقترفه، ولكن الذي يمكن أن يبذر الأمل في نفس ذاك العاصي قول الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ ۚ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فالعاصي بعدما يسمع هذه الآية سيرجع الأمل إلى قلبه مجددا وينمو ويكبر حتى يتناول مهجته من ثمار شجرة الأمل التي نبتت ثمّ علَت فروعها في فؤاده بلمحة عين، وكلّ قلبٍ ينبغي أن يبحث عن الأمل الذي يناسبه ويتشبّث به.
ما أهمية الأمل والتفاؤل في صنع المستقبل؟
قد مرّ آنفًا أنّ الأمل والتفاؤل رديفان لأيّ تفوق قد يصنعه البشر في هذه الحياة، والمستقبل هو الزمان الذي يشغل تفكير الناس في تلك الحياة، فكلّ نجاحاتهم وطموحاتهم مُرتبطة بزمنٍ مقبل اسمه المستقبل، فلو ضاع الأمل أو التفاؤل أحدهما أو كلاهما فذلك نذير بخسارة الأحلام والطموحات المتعلقة بالمستقبل والتي قد خطط لها الإنسان عديدًا.
لعلّ خير ما أذكره في هذا المجال قصّة قد قرأتها في يوم ما في كتاب يحوي مجموعة قصص قصيرة، كان بطل تلك القصة شاب عنده أخ أكبر منه
كان ذاك الشقيق الأضخم يتعثّر في حياته عديدًا، فأرسله والده لدراسة فرع في الجامعة مُعلى الرغم منًا، فذهب إلى الجامعة التي كانت في أجمل مدينة في الوطن، إلا أنّه قد ذهب مرغمًا فلم يرَ شيئًا من جمال البلدة، ولم يحبَّ ذلك الفرع، فكان يرسب ووالده يعاقبه
فكان الشقيق الأول يحدّث الأخ الأصغر عن سوء حال هذه المدينة وهذه الجامعة، فصار الفتى بطل الرواية يتبنّى بصيرة شقيقهُ وأصبح يكره تلك الأمكنة.
سيطر التشاؤم على حال الأخ الأصغر الذي كان مِن المُقرّر أن يذهب إلى ذات المدينة ويدرس فيها، وتضعّمت آماله وطموحاته وتهشّم جدار مستقبله الضعيف أصلًا والذي لم يتم حتى الآن، غير أن وقعَ قضىٌ جعل حياة الأخ الأصغر تنقلب بشكلٍ مقلوب، فذات مرة ذهب عمّ الشقيقين في تجارة إلى تلك البلدة
وقرّر أن يأخذ الشقيق الأصغر برفقته في سَفرة إلى هذه المدينة، وحالَما وصلا رأى الأخ الصغير أنّ المدينة جميلة وليست كما وصفها شقيقه، وجامعتها تكاد تكون أعجوبة من أعاجيب هذه البلاد، فعندها علِمَ أنّ كره أخيه للفرع الجامعي الذي يدرسه هو ما جعله يشاهد المدينة وكأنّ السواد يلفّها من أطرافها كافّة.