بعد أن فتح عينيه.. رسائل “أبو الهول” من أرض الحضارة وفجر الضمير

عظمة الحضارة الفرعونية القديمة، وما تحفظه من أسرار وعجائب، والتي لم يستطع العالم تفسيرها حتى الآن، ربما تكون هي التي جعلت شائعة أبو الهول التي تعمى عينيه تنتشر في ساعات قليلة وتشعل مواقع التواصل الاجتماعي، بل أصبح موضة عالمية وينشر صورته وهو يغلق عينيه وكأنه دخل في قيلولة أو قيل من الراحة.

على الرغم من سذاجة الإشاعة، ولأننا لسنا في عصر المعجزات، ما يمكن للعقل أن يصدق أن هذا التمثال الضخم المصنوع من الحجر الجيري والذي كان يرقد منذ أكثر من 4600 عام في هذا المكان يغلق عينيه.

• قاعة تسجيلات مصرية و مقبرة صينية .. أغرب الأماكن المخفية في العالم مع الكثير من الغموض

• حقيقة صورة “أبو الهول النائم” .. هل هناك كارثة مقبلة؟

ولكن بعيدًا عن سيل النكات والقفازات الضاحكة التي أطلقها المصريون على هذه الإشاعة، فلنتخيل ما حدث في رأس أبو الهول وهو يتبعنا وأحفاده وأحفاد حضارة أول بلد عرفه التاريخ، شهد أبو الهول على بزوغ فجر الضمير من هذه الأرض الطيبة، حتى تتبعه العصور بانتصاراتها وإخفاقاتها، حتى وصلنا إلى عصرنا الحالي، لنرى ما وصلت إليه الإنسانية من حروب ونزاعات وأزمات وماذا. لقد فعل الإنسان للكرة الأرضية من حيث التلوث وانتشار الأمراض والأوبئة والتغيرات المناخية ونقص الغذاء والطاقة والفقر في الماء، ناهيك عن الأزمة الأخلاقية وانتشار الجريمة وغيرها.

في الواقع، أشعر بالشفقة على أبو الهول من رعب ما رآه، في رحلته الشاقة، وتذكرت قراءتي لأحد أفضل الكتب التي تحدثت عن الحضارة المصرية، وهو كتاب “فجر الضمير” لجيمس هنري برستد. في عام 1943 ترجمه سليم حسن حيث أشار الكاتب إلى أن مصر هي أصل الحضارة العالم ومهدها الأول، حيث شعر الإنسان أولاً بدعوة الضمير، فنشأ الضمير الإنساني في مصر ونشأ كما فعل. أخلاق.

وقد تناول المؤلف هذه القضية منذ أقدم العصور البشرية حتى انقراض الحضارة في مصر حوالي عام 525 قبل الميلاد، ومن هذه الحضارة أخذها العبرانيون ونقلوها إلى الأوروبيين، وبالتالي دمر الكتاب النظريات الراسخة في الأذهان. أن الحضارة الأوروبية مأخوذة من العبرانيين.

ويؤكد الكتاب أن لمصر سيادة مطلقة وسابقة في تكوين ثقافة العالم، في إرساء أسس الأخلاق وظهور فجر الضمير الذي أشع على العالم أجمع.

كما قضت على الأساطير التي كانت شائعة بين الغالبية العظمى من علماء التاريخ القديم والحديث، واعتقدت مجموعة منهم أن الصين والهند ثم اليونان هي مهد الحضارة العالمية، ومنه أخذ العالم الحديث، و الحقيقة أن مصر هي التي أخذ منها العالم حضارته من الطريق إلى فلسطين، والتي كانت نقطة الاتصال الوحيدة بين الحضارة الأوروبية والحضارة المصرية، رغم أنها نقلت بشكل مشوه إلى حد ما.

صراع جسدي

قسم المؤلف تاريخ الإنسانية إلى حقبتين بارزتين، الأول عصر نضال الإنسان مع المادة والقوى الطبيعية والتغلب عليها نهائياً، وعصر الصراع بينه وبين ذاته الداخلية، حيث بدأ ضميره ينبثق وضميره. تم تشكيل الأخلاق.

يقدر زمن الصراع المادي بنحو مليون سنة، وقد بدأ عصر نشوء الضمير منذ أن عرف الإنسان كيف يكتب أفكاره، ويقدر عمره بحوالي 5000 سنة.

تحدث عن قوة الدين كأكبر قوة أثرت في حياة الإنسان القديم، وكيف استمر الصراع بين العالم الخارجي المحيط بالإنسان والعالم الداخلي المتأصل في الروح حتى أصبح الدين وأدى في النهاية إلى ظهوره. من المبادئ الأخلاقية في أقدم مجتمع بشري خلال فترة تزيد عن 3 آلاف عام، وفي القرن السادس عشر قبل الميلاد، ظهرت أول عقيدة التوحيد في التاريخ.

عقيدة كلمة

واستخدم المصري القديم كلمة (قلب) للدلالة على العقل أو الفهم لاعتقاده أن القلب هو مركز الفهم، بينما كانت “الكلمة” هي الأداة التي تعلن الفكرة ويرتديها لباس الحقيقة، وبالتالي ظهرت الفكرة في العالم الملموس للكون، لكن الله نفسه أصبح القلب الذي يفكر واللسان الذي يتكلم، وهنا يمكننا معرفة الأساس التاريخي القديم لعقيدة “الكلمة” في العهد الجديد ( الكتاب المقدس) “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله.”

وبالانتقال من عالم آلهة الطبيعة إلى عصر الحضارة الناضجة، فقد رأوا أن العالم من حولهم يعمل بعقل وأنه تم إنشاؤه وحمايته بعقل عظيم يحيط بكل شيء. وكانوا يؤمنون أن هذا الإله لا يزال يقوم بعمله في كل صدر وفي كل فم في جميع الكائنات الحية، وكان المصري القديم يؤمن “بحياة الله الذي في كل الناس” أو يشير إلى “الله”. من فيك “.

الوصايا العشر

في هذه المرحلة العميقة من التاريخ، أدرك الإنسان أن بعض التصرفات جديرة بالثناء والبعض منها مستهجن، وأن كل شخص يُعامل وفقًا لذلك. تُمنح الحياة للمسالم (الذي يحمل السلام) والموت للمجرم (الذي يرتكب الجريمة).

وهكذا استمر المؤلف في إثبات أن ضمير الإنسانية بدأ يتشكل في مصر قبل أي دولة في العالم. وانتصر أن ما حفظت حضارة قدماء المصريين هي الأخلاق، بما وضعوه من مجموعة من القيم والمبادئ التي تحكم إطار حياتهم، تلك القيم التي سبقت “الوصايا العشر”. قبل نحو ألف عام كان أهم شيء في وصية الأب قبل وفاته هو الجانب الأخلاقي، وتوصية أبنائه بالتقوى والعدالة، حيث حرصوا على توضيح خلود هذه القيم في عالم الموت، لذلك نحتوا على جدران قبورهم رمز إله العدل “ماعت” ليذكروا أن العمل بقي معهم، كما قال فرعون أهناسيا لابنه الأمير “مير كير” (فضيلة الرجل المستقيم محبوب أكثر على الله من ثور الظالم أي من ذبيحة الظالم).

خطوة إلى الوراء

يعتقد برستد أننا ما زلنا في بداية عصر تكوين أخلاقنا، وأن هناك أهوال وصعوبات بيننا وبين حدود تلك المملكة ربما استغرق تجاوزها مئات الآلاف من السنين، في وقت عندما نتخلى عن المادة والشجار والضغائن والحروب التي تغلي مراجلها في جميع أنحاء العالم، ولكن يبدو أن هذا لن يتحقق. كلما اتخذنا خطوة نحو الأخلاق الفاضلة، نرجعها مرة أخرى بل ونرجع للوراء، فكيف نصل إلى مستوى الأخلاق العالي ونحن ما زلنا نتقن آلات القتل والفتك والدمار.

أوه، أوه، كل هذا يحمله أبو الهول ولا يزال يحمله. لديك الحق في أن تغمض عينيك وتحزن على سذاجة أحفادك الذين يؤمنون بالخرافات من هذا النوع.

بقلم شيرين احسان