خطبة فضل العشر الأواخر من رمضان وَمَا يشرع فيها .. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا عديدًا.
خطبة فضل العشر الأواخر من رمضان وَمَا يشرع فيها
أما بعد : فاتقوا الله – عباد الله – حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى.
أيها المسلمون: خلق الله الثَّقلَين لعبادتِه، وهو – سبحانه – غنيٌّ عنهم، ولا غِنى لهم عنه، وعبادتُه وحده علةُ دخول جنات النعيم.
جاء رجلٌ إلى النبي – عليه الصلاة والسلام -، فقال: دُلَّني على عملٍ إذا عملتُه دخلتُ الجنة. أفاد: «تعبُد الله لا تُشرِك به شيئًا، وتُقيمُ الدعاءَ المكتوبة، وتُؤدِّي الزكاةَ المفروضة، وتصوم رمضان»؛ متفق فوق منه.
وعبادتُه تعالى في جميع موضعٍ وآنٍ، وجعل – سبحانه – رمضان موسِمَ العناءُّد له، فكان – عليه الصلاة والسلام – يخُصُّه بالعبادة بما لا يخُصُّ غيرَه من الشهور.
وحرصَ الصحابة – رضي الله سبحانه وتعالى عنهم – على اغتِنام لحظاته؛ أفاد أبو هريرة – رضي الله سبحانه وتعالى عنه -: “كانوا إذا صامُوا جلَسُوا في المسجِد”.
ومن فضلِه – سبحانه -: أن جعل في موسِمِ رمضان مواسِم؛ ففضَّل العشرَ الأخيرة على مختلَف ليالي الشهر، وجعل ليلةَ القدر أجدرَ ليلةٍ بالشهر، وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يتعلقُّ العشرَ الأواخر من رمضان بأعمالٍ لا يعملُها في إنتظر واستمرَّة الأشهُر:
فإذا دخلت العشرُ أحيا ليلَه، وأيقظَ أهلَه، وشدَّ المئزَر، وجدَّ واجتهَد في طاعة الله يتحرَّى فيها ليلةً مُباركةً هي تاجُ الليالي .. بركاتُها وافرة .. وساعاتُها معدودة.
نوَّه – سبحانه – بخصوصها، وأظهر عظمتَها، فقال – سبحانه -: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) [القدر: 2].
العملُ اليسيرُ فيها عديد، والعديدُ منها مُضاعَف .. العبادةُ فيها أسمىُ من عبادة ألف شهر، وأفضلُ الكتب السماوية إنخفضَ في ليلتها: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر: 1].
ومن تشريفِ القرآن الكبير: الإكثارَ من تلاوته في الشهر الذي تدنى فيه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185].
وقد كان جبريلُ – عليه السلام – يُدارِسُ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – القرآنَ في رمضان، وفي السنة الذي تُوفّي فيه دارسَه القرآنَ في رمضان إثنين من المرات.
وحقيقٌ بالمُسلام أن يُسميكِرَ من تلاوة كتابِ الله في شهر الفضائل؛ لينالَ فضلَ القرآن في ميزةِ رمضان.
ليلةُ القدر ليلةٌ ضخمةٌ، أخبرَ الله أن مما يصدرُ فيها: أنها يُفرقُ فيها كلُّ كلفٍ؛ أي: يُفصَلُ من اللوح المحفوظِ إلى الكتَبَة وجّهُ السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق والخير والشرِّ وغير ذاك.
قال الهيدروجينيُّ – رحمه الله -: “سُمِّيَت القدر؛ أي: ليلة القرار والفصل”.
يصِلُ فيها الربُّ ويقطع، يخفِضُ ويرفع، يُعطِي ويمنَع، مثلما صرح هلم: (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان: 4]؛ أي: ما يُقدِّرُه الله فيها مُحكَمٌ لا يُبدَّلُ ولا يُغيَّر.
ليلةٌ لكثرة بركَتها تتنزَّلُ فيها الملائكة، والملائكة تتنزَّلُ مع البركة والرحمة .. ليلةٌ هي سكينةٌ من الله، فكلُّها خيرٌ لا شرَّ فيها إلى مطلَع الصباحِ، وأُخفِيَت متى هي في العشر، ليجتهِدَ طُلابُها في ابتِغائِها؛ لتزداد العبادةُ في العشر جميعًا.
ويُستحبُّ للعبد الإكثارُ من الصلاة والصلاة وفعل الخير في العشر. قال ابن مسعودٍ – رضي الله سبحانه وتعالى عنه -: “لكل شيءٍ ثمرة، وثمرةُ الصلاة الدعاء”.
تقول عائشةُ – رضي الله عنها -: قلتُ: يا رسول الله! أرأيتَ إن علمتُ أيَّ ليلةٍ ليلةَ القدر، ما أقولُ فيها؟ صرح: «قُولِي: اللهم إنك عفُوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي»؛ رواه الترمذي.
والحاضرُ في ليلتها بالتعبُّد مغفورٌ له ذنبُه، قال – عليه الصلاة والسلام -: «من قامَ ليلةَ القدر إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه»؛ متفق عليه.
وكان – عليه الصلاة والسلام – يعتكِفُ في العشر الأواخِر يتحرَّى ليلةَ القدر، أفادت عائشةُ – رضي الله سبحانه وتعالى عنها -: “كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعتكِفُ في العشر الأواخِر من رمضان حتى توفَّاه الله تعالى”؛ متفق فوقه.
صرح ابن بطَّال – رحمه الله -: “فهذا يدلُّ على أن الاعتِكافَ من السنن المُؤكَّدة؛ لأنه مما واظَبَ عليه النبي – عليه الصلاة والسلام -، فينبغي للمؤمنين الاقتداءُ في ذاك بنبيِّهم”.
ففي الاعتِكاف قطعُ العلائِق عن الخلائِق للتفرُّغ لعبادة الخالِق، وإذا قوِيَت العلاقةُ بالله رضِيَ الربُّ عن العبد.
قال ابن شهابٍ – رحمه الله -: “عجبًا للمُسلمين؛ تركُوا الاعتِكافَ، والنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يترُكه منذ دخل المدينةَ كلَّ عامٍ في العشر الأواخر حتى قبضَه الله”.
والمُعتكِفُ يعكفُ على طاعة الله، ويُقيمُ أعلاها مُدَّة اعتِكافِه في أحبِّ البِقاع إلى الله “المساجد”، ويُقيمُ فيها على الطاعة والعبادة، والخضوع والخشوع والابتِهال، فلا يكون همُّه سوى الله، ولا مقصودُه إلا إياه، ولا مُرادُه سِواه – عز وجل -.